ماذا لو كان هناك عالماً تنتقل فيه الطاقة من مصدرها إلى مستهلكها بشكل فوري وآمن وشفاف، دون الحاجة إلى وسطاء أو أنظمة مركزية معقدة؟! ماذا لو كان هناك شبكة طاقة ذكية تتكيف مع الاحتياجات وتتوقعها، وتضمن للمستهلك الحصول على طاقة نظيفة ومستدامة؟! قد يبدو ذلك وهماً أو نسجاً قصصياً من أحد أفلام الخيال العلمي ولكنه في الحقيقة واقع قريب بفضل تقنية ثورية ستغير قواعد اللعبة: البلوك تشين (Blockchain).
في هذا المقال سنتعرف على تقنية البلوك تشين (سلسلة الكتل) وأهميتها وتطبيقاتها في قطاع الطاقة
ما هي تقنية البلوك تشين Blockchain؟
تُعد تقنية البلوك تشين ثورة حقيقية في عالم الأعمال، إذ أنها تقدم سجلاً مشتركًا وآمنًا لا يمكن تغييره، مما يسهل عملية تسجيل المعاملات وتتبع الأصول في شبكة الأعمال بكل سلاسة. وأما عن الأصول التي يمكن تتبعها فقد تكون ملموسةً كالمنازل والسيارات وغيرها أو غير ملموسة مثل الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وحقوق الطبع والنشر وغيرها. أي أنه يمكننا القول أن تقنية البلوك تشين تتيح إمكانية تتبع وتداول أي شيء ذو قيمة مما يساهم في تقليل المخاطر، وخفض التكاليف لجميع الأطراف المعنية، مما يعزز من كفاءة وشفافية العمليات التجارية.
ومن الجدير بالذكر أنه تم تطوير تقنية البلوك تشين في الأصل للعملات المشفرة، وامتدت إمكانياتها فيما بعد إلى ما هو أبعد من العملات الرقمية لتدخل في العديد من الصناعات. ومن المتوقع أن يستفيد قطاع الطاقة بشكل كبير من تقنية البلوك تشين، وخاصة من حيث اللامركزية والأمن والقدرة على التتبع والشفافية.
لماذا يعتبر البلوك تشين مهماً؟
تُعتبر المعلومات بمثابة العمود الفقري لأي عمل تجاري، وكلما تم الحصول عليها بشكل أسرع وأكثر دقة، زادت فعالية العمليات. هنا يأتي دور تقنية البلوك تشين، التي تُقدم حلاً مثاليًا لتوفير معلومات فورية وموثوقة. إذ تعمل هذه التقنية على تخزين البيانات في سجل مشترك لا يمكن تغييره، مما يضمن أن الوصول إليه محصور فقط بالأعضاء المصرح لهم في الشبكة. كما تتيح تقنية البلوك تشين تتبع كل شيء بدءاً من الطلبات والمدفوعات وصولاً إلى الحسابات والإنتاج. ونظراً لأن الأعضاء يتشاركون في رؤية واحدة للحقيقة ويمكنهم الاطلاع على جميع تفاصيل المعاملات من البداية إلى النهاية، الأمر الذي يعزز الثقة ويزيد من الكفاءة ويخلق فرصاً تجارية جديدة.
ما هي العناصر الرئيسية للبلوك تشين؟
تقنية الدفتر الموزع (Distributed ledger technology DLT)
تسمح هذه التقنية لجميع المشاركين في الشبكة بالوصول إلى سجل مشترك وثابت للمعاملات. وباستخدام هذا الدفتر، يتم تسجيل كل معاملة مرة واحدة فقط، مما يلغي الحاجة لتكرار الجهود كما يحدث في الأنظمة التقليدية
السجلات الثابتة
بعد تسجيل أي معاملة في الدفتر المشترك، لا يمكن لأي شخص تعديلها أو العبث بها. وإذا كان هناك خطأ، يتعين إضافة معاملة جديدة لتصحيح الخطأ، مما يجعل كلا المعاملتين مرئيتين للجميع.
العقود الذكية
عبارة عن مجموعة من القواعد يتم تخزينها على البلوك تشين وتعمل تلقائيًا وتُستخدم العقود الذكية لجعل المعاملات أسرع وأكثر كفاءة. تحدد هذه العقود الذكية شروط تنفيذ المعاملات، مثل تحويل سندات الشركات أو دفع التأمين على السفر، وغيرها الكثير.
كيفية عمل البلوك تشين؟
عندما تحدث أي معاملة، تُسجل كـ “كتلة” من البيانات، وتظهر هذه الكتل حركة الأصول، سواء كانت ملموسة مثل المنتجات أو غير ملموسة مثل الأفكار ويتم تجميع الكتل (المعاملات) معًا في سلسلة لا رجعة فيها هي البلوك تشين.
تحتوي كل كتلة على معلومات مهمة مثل: من قام بالمعاملة، ماذا تم تبادله، متى وأين حدثت المعاملة، وكم كانت الكمية. بل يمكنها أيضًا تسجيل تفاصيل إضافية مثل درجة حرارة شحنة الطعام. كما وتتصل كل كتلة بالكتل التي تسبقها وتليها، مما يشكل سلسلة متكاملة من البيانات. وتُظهر هذه السلسلة انتقال الأصول أو تغيير ملكيتها، وتؤكد على الوقت والترتيب الدقيق للمعاملات. وتُربط الكتل معًا بشكل آمن، مما يمنع أي تغيير أو إضافة كتلة جديدة بين الكتل الموجودة.
تطبيقات البلوك تشين في قطاع الطاقة
تداول الطاقة (Energy Trading)
أحدثت تقنية البلوكشين ثورة في تداول الطاقة، إذ زادت من سرعة المعاملات وفعاليتها من حيث التكلفة وموثوقيتها. وبفضل العقود الذكية فقد تم تبسيط العمليات، مما ألغى الحاجة إلى الوسطاء وضمن الشفافية بين المشاركين. ومن خلال نظام تداول الطاقة “نظير إلى نظير “(peer-to-peer P2P)، يمكن للأفراد بيع فائض طاقتهم المتجددة مباشرة للمستهلكين المحليين مما يخلق فوائد للطرفين.
ومن الجدير بالذكر أن نموذج الشبكة المركزية حيث السعر الثابت للطاقة كان مناسباً لمصادر الطاقة التقليدية، فإن دمج مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة والرياح يفرض تحديات فريدة من نوعها ويتطلب حلولًا جديدة بسبب تقلب إنتاجها
تواجه الشبكات التقليدية تحديات في استيعاب هذه المصادر المتجددة الموزعة، مما يجعل توسيع البنية التحتية للشبكة غير مجدٍ اقتصاديًا. كما أن الطبيعة المتقطعة للطاقة المتجددة تتطلب استثمارات كبيرة في أنظمة تخزين الطاقة. ومع ذلك، أدرك سوق الطاقة أن مالكي مصادر الطاقة الصغيرة نسبياً يمكنهم المشاركة في تداول الطاقة فيما بينهم إذ يمكنهم الاتفاق على الأسعار وإجراء معاملات محددة في أوقات ومواقع متفق عليها. ومع تطور هذه الأسواق المحلية، تم تعزيز استخدام حلول البطاريات، مما ساعد في إدارة الطلب في أوقات الذروة وتحسين التسعير وتسريع الانتقال للطاقة الخضراء. وقد مهد هذا الاكتشاف الطريق لتداول الطاقة من نظير إلى نظير، والذي يتماشى بشكل طبيعي مع نموذج الطاقة اللامركزي، إذ تتتبع تقنية البلوك تشين جميع المعاملات المالية الأساسية. ومن خلال التحول من نماذج توزيع الطاقة المركزية إلى اللامركزية، يمكن دمج مصادر الطاقة المتجددة بسلاسة في شبكات الطاقة.
دمج السيارات الكهربائية في نظام الطاقة
تمثل السيارات الكهربائية (EVs) فرصة لتحسين توازن الشبكات. ويعود الفضل في ذلك إلى بطارياتها، التي تسمح بتخزين الطاقة الفائضة والمولدة من مصادر متجددة وبيعها عند الحاجة.
تساهم تقنية البلوك تشين في تخزين المعلومات المالية بشكل آمن في سجلات دائمة بطريقة تضمن خصوصية وأمان الأطراف المعنية، وتسمح بتداول الطاقة بشكل آمن وشفاف، مما يسمح لمالكي السيارات الكهربائية بتحقيق عوائد مالية إضافية. وبذلك تساهم السيارات الكهربائية في تحقيق التوازن بين العرض والطلب على الطاقة، وتعزيز استقرار الشبكة الكهربائية.
إدارة الشبكات الذكية
تُعد الشبكة الذكية نظامًا متقدمًا يدمج الطاقات المتجددة وينظم نقل الطاقة بكفاءة، فهي عبارة عن نظام معقد يجمع بين التقنيات المتقدمة والبرمجيات الذكية لإدارة توليد ونقل وتوزيع الكهرباء بشكل أكثر كفاءة واستدامة.
تهدف إدارة الشبكة إلى تحديد قواعد تدفق الطاقة وضمان الأمان، لتلبية احتياجات الطاقة المتزايدة. يتضمن نظام إدارة الشبكة الذكية نظام إدارة توزيع متقدم (advanced distribution management system: ADMS) ونظام إدارة الموارد الموزعة (distributed energy resource management system: DERMS).
يقوم نظام (ADMS) بمراقبة الشبكة، وتحسين أدائها وتحليل البيانات، واتخاذ القرارات بشأن كيفية إدارة تدفق الطاقة. بينما يتعامل نظام (DERMS) مع إدارة الأجهزة المتصلة بالشبكة، مثل الألواح الشمسية وبطاريات السيارات الكهربائية بشكل فعال ويدعم خدمات الشبكة ويعزز خدمات الموثوقية وإدارة قيود الطاقة المتجددة.
تسهم تقنية البلوك تشين في تسريع تبادل البيانات وتتبعها من خلال العقود الذكية، مما يعزز استقرار الشبكة ويقلل الحاجة للخدمات الإضافية. كما تتيح سجلات البيانات المفتوحة والمدققة للموظفين المعتمدين الوصول الفوري لمعلومات الشبكة، مما يسهل تدفق الطاقة بين المولدات والمستخدمين.
الطاقة الخالية من الكربون (Carbon-Free Energy CFE)
تزداد أهمية مراقبة انبعاثات الكربون وجهود الاستدامة للحصول على حسابات دقيقة للبصمة الكربونية. تقدم تقنية البلوك تشين، بالتعاون مع مستشعرات إنترنت الأشياء، حلاً موثوقًا للقياس الدقيق. وبفضل هذه التقنية، تستطيع المؤسسات تتبع ومراقبة انبعاثاتها بكفاءة، مما يسهل عليها تحقيق أهداف الاستدامة.
يتطلب تنفيذ الطاقة الخالية من الكربون على مدار الساعة (24/7) إدارة معقدة للعمليات المحاسبية. وهنا تأتي تقنية البلوك تشين والعقود الذكية لتبسيط هذه العمليات، مما يضمن دقة البيانات ويقلل من مخاطر الاحتيال. وبالتالي، تتمكن المؤسسات من الحصول على معلومات موثوقة وإدارة فعالة في إطار الطاقة الخالية من الكربون على مدار الساعة.
أبرز شركات الطاقة التي تستخدم تقنية البلوك تشين
مجموعة إيبردولا (Iberdrola Group)
أطلقت مجموعة إيبردولا مشروعاً تجريبياً يعتمد على تقنية البلوك تشين للتحقق في الوقت الفعلي من مصادر الطاقة المتجددة الموردة والمستهلكة. من خلال هذه التقنية، تمكنت الشركة من ربط محطات توليد الكهرباء بنقاط استهلاك معينة، مما أتاح تتبع مصدر الطاقة بشكل كامل. وقد عزز هذا النهج الشفافية وشجع على استخدام الطاقة المتجددة بشكل أكبر.
إنيل (Enel)
صاغ فريق إنيل مواصفات تشغيلية لثلاثة تطبيقات محتملة، أو “حالات الاستخدام”، تضمنت الشبكات والتجارة والطاقة المتجددة. تهدف حالات الاستخدام هذه إلى اختبار جدوى استخدام بنية البلوك تشين لإدارة شبكات الجهد المتوسط والمنخفض، وإنشاء منصة تداول نظير إلى نظير (P2P) لأسواق السلع والطاقة، وتمكين أنظمة الدفع على الشبكات الصغيرة للطاقة المتجددة.
إنجي (Engie)
أنفقت شركة إنجي، العملاق الفرنسي في مجال الطاقة، أكثر من 1.5 مليار يورو على التحول الرقمي خلال العقد الماضي، وهي تتصدر استخدام تقنيات البلوك تشين. تتضمن إحدى طرق استخدامها لهذه التقنية إدارة معاملات الطاقة، بما في ذلك العرض والتوزيع والاستهلاك. كما تستفيد الشركة من البلوك تشين في تداول شهادات الطاقة المتجددة (RECs)، وتسهيل تبادل الطاقة بين الأفراد، بالإضافة إلى شحن المركبات الكهربائية.
الخاتمة
تُظهر تقنية البلوك تشين إمكانات هائلة لإحداث تحول جذري في قطاع الطاقة، من خلال تحسين عمليات تداول الطاقة وإدارتها وتخزينها، فضلاً عن تعزيز الأمان ودمج السيارات الكهربائية ومراقبة انبعاثات الكربون. وإن اعتماد هذه التقنية يُمكن أن يسهم في تعزيز الكفاءة والشفافية والاستدامة، مما يمهد الطريق لمستقبل طاقة أكثر خضرة ولامركزية.
تابعونا على لينكيد إن Linked-in لمعرفة كل جديد في مجال الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية…
نتمنى لكم يوماً مشمساً!
المصدر:forbes, ibm, energy digital