في عالم ينتج مليارات الأطنان من النفايات سنويًا، أصبحت إدارة النفايات واحدة من أكبر التحديات البيئية التي تواجه البشرية. لكنها أيضًا واحدة من أهم الفرص لتحقيق الاستدامة. فإدارة النفايات ليست مجرد عملية جمع القمامة والتخلص منها؛ وإنما هي عملية شاملة تبدأ من لحظة تصميم المنتج وحتى نهاية عمره الافتراضي. هنا، تبرز أهمية المسؤولية البيئية التي تتطلب منا أخذ كل مرحلة من دورة حياة المنتج بعين الاعتبار لتقليل الأثر السلبي على كوكبنا.
كل ما نقتنيه في حياتنا كالهواتف والأجهزة الإلكترونية وحتى الأطعمة المغلفة تبدأ رحلتها من مكان وتنتهي بمكان آخر. هل فكرت يومًا ماذا قد يحدث للهاتف الذي تقتنيه عندما ينتهي عمره؟ هل تعلم أن بعض مكونات علب الأطعمة قد تستغرق مئات السنين لتتحلل في الطبيعة؟ هذا هو بالضبط ما يعنيه مفهوم “من المهد إلى اللحد” (Cradle to Grave)، الذي يسلط الضوء على ضرورة تحمل المسؤولية البيئية في كل خطوة، بدءًا من تصميم المنتج مرورًا باستخدامه، ووصولًا إلى التخلص منه بشكل آمن.
في هذا المقال، سنأخذك في رحلة شاملة لفهم كيف يمكن لإدارة النفايات أن تكون أداة قوية لتحقيق الاستدامة البيئية. وسنستكشف معًا كيف يمكن للتصميم الذكي، والاستهلاك الواعي، والتقنيات الحديثة أن تعيد تشكيل علاقتنا بالنفايات، وتحولها من عبء بيئي إلى مورد قيّم.
المهد: مرحلة التصميم والإنتاج
تشير لجنة الأبحاث المشتركة للاتحاد الأوروبي إلى أن 80% من جميع التأثيرات المناخية المرتبطة بالمنتجات يتم تحديدها عادة طوال مرحلة تصميم المنتج، مما يجعل مرحلة تصميم منتج مستدام عاملاً حاسماً في استراتيجية استدامة الأعمال إذ أنها تمثل النقطة التي يمكن عندها تحسين دورة حياة المنتج لتحقيق أقصى قدر من الفوائد البيئية والاقتصادية والاجتماعية.
ما هو تصميم المنتج المستدام؟
يشير تصميم المنتج المستدام إلى عملية إنشاء منتجات لا تستنزف الموارد الطبيعية لكوكبنا. ففي حين أنه من المستحيل صنع منتجات دون استهلاك بعض الموارد إلا أن الشركات باتت تعتمد التصميم المستدام وتسعى جاهدة لتقليل استهلاكها للموارد المحدودة والطاقة وتقليل بصمتها البيئية.
يتطلب هذا النوع من التصميم تخطيطًا دقيقًا للتوزيع والتصنيع انطلاقاً من اختيار المواد وصولاً إلى التغليف.
يُعدّ اختيار المواد الأساس في هذه الرحلة. فبدلاً من المواد التي تستنزف الطاقة وتُلوّث البيئة، يفضّل اختيار المواد القابلة لإعادة التدوير أو التحلّل. كما أنه، من ناحية أخرى، يُفضل تجنب تلك المواد التي تتطلب كميات كبيرة من الطاقة. ويُنصَح بالاعتماد على المواد الطبيعية من مصادر تتمتع بأساليب حصاد صديقة للبيئة وغير مهددة مثل الخشب من غابات مُدارة بمسؤولية.
ولا يتوقف الأمر عند مرحلة الإنتاج، وإنما يمتد ليشمل ما بعد استخدام المنتج فدورة حياة المنتج بالكامل، بما في ذلك مصيره بعد انتهاء عمره، تمثل نقطة محورية في تصميم المنتج المستدام. والتصميم المستدام يُراعي إمكانية إعادة استخدام المنتج أو إعادة تدويره، مما يُقلّل من النفايات.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التغليف يشكل جزءاً لا يتجزأ من المنتج ولهذا يجب أن يكون صديقاً للبيئة وإن اختيار تغليف مصنوع من مواد قابلة لإعادة التدوير يمكن أن يعزز من استدامة المنتج ويقلل من بصمته البيئية.
وأخيرًا، يجب النظر إلى كيفية تصنيع المنتج، ففي حين أنه لا يمكن التخلص من استخدام الطاقة في التصنيع إلا أنه من الممكن تقليلها إلى أدنى حد باستخدام تقنيات حديثة ومصادر طاقة نظيفة.
لماذا نهتم بالتصميم المستدام للمنتجات؟
إن التصميم المستدام للمنتجات يمثل ضرورة ملحة لأنه يجمع بين المسؤولية البيئية والفوائد التجارية، ليُشكّل ركيزةً أساسيةً لبناء مستقبل أفضل. وقد اكتسب التصميم المستدام أهميته من:
- مكافحة التلوث: يُساهم التصميم المستدام في تقليل التلوث من خلال الحدّ من استخدام الموارد الضارة وتشجيع استخدام مصادر الطاقة المتجددة.
- الجدوى الاقتصادية: في حين أنه قد يُنظر إلى المنتجات المُستدامة على أنها أغلى ثمنًا، إلا أن التصميم المُستدام يُساعد في الحدّ من التكاليف على المدى الطويل. فهو يُشجّع على استخدام مواد أكثر ديمومة وكفاءة، مما يُقلّل من الحاجة إلى استبدالها بشكل متكرر. كما أنه يُساهم في خفض تكاليف الطاقة والمياه.
- الحفاظ على الموارد: يُركّز التصميم المُستدام على استخدام الموارد المُتجدّدة وإدارة الطاقة والمياه بكفاءة. فهو يُساهم في الحفاظ على الموارد الطبيعية الثمينة ويُقلّل من الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية التي تُهدّد مستقبل كوكبنا.
مرحلة الاستهلاك
في هذه المرحلة يصبح دور المستهلك محورياً في تحديد مدى استدامة دورة حياة المنتج. فكل قرار شراء يُتّخذ هو فرصة لتقليل النفايات وحماية البيئة.
وهنا يبرز أهمية الاستهلاك الواعي والذي يشير إلى اتخاذ قرارات الشراء بناءً على الاعتبارات الأخلاقية والبيئية والاجتماعية وينطوي على البحث بنشاط عن المنتجات والخدمات التي تتوافق مع قيم الفرد. إذ يمكن للمستهلك اختيار منتجات ذات تعبئة أقل، أو مصنوعة من مواد قابلة لإعادة التدوير، أو ذات عمر افتراضي أطول.
تتجلى أهمية الاستهلاك الواعي فيما يلي:
- دفع عجلة التغيير الإيجابي: يمتلك المستهلكون الواعون القدرة على تحفيز الشركات على تبني ممارسات أخلاقية ومستدامة، من خلال دعمهم للشركات التي تلتزم بهذه المبادئ. ويؤدي هذا بدوره إلى إعادة تشكيل معايير الصناعة، وتشجيع المزيد من الممارسات التجارية المسؤولة والمستدامة على نطاق واسع.
- إعادة صياغة استراتيجيات الأعمال: ففي حين أنه قد يبدو أن الشركات هي من تُسيطر على السوق، إلا أن المستهلك الواعي يمتلك نفوذًا أكبر. فالشركات تُدرك اليوم أهمية تلبية توقعات المستهلكين الذين يُطالبون بالاستدامة والمسؤولية الاجتماعية. والتي تفشل منها في التكيف مع توقعات المستهلكين المتغيرة تخاطر بفقدان حصتها في السوق والإضرار بسمعتها. ونتيجة لذلك، تعمل العديد من الشركات الآن على دمج الاعتبارات الأخلاقية والبيئية في عملياتها.
- المساءلة والشفافية: فالاستهلاك الواعي يحمل الشركات مسؤولية أفعالها ويتمتع المستهلكون الواعون بالقدرة على مكافأة الشركات التي تظهر ممارسات مسؤولة وسحب الدعم من تلك التي لا تفعل ذلك. وهذا يشجع الشركات على التصرف بمسؤولية، وشفافية، ومعالجة القضايا الاجتماعية والبيئية.
- تشجيع الابتكار والإبداع: يعزز الاستهلاك الواعي الابتكار لدى الشركات والتي تسعى إلى تلبية الطلب على المنتجات والخدمات المستدامة والأخلاقية وكذلك الاستثمار في البحث والتطوير من أجل توفير حلول جديدة وصديقة للبيئة.
ممارسات الاستهلاك الواعي
لا يقتصر دور المستهلك على عملية الشراء فحسب وإنما يمتد ليشمل أموراً أكثر من ذلك، بما فيها
- دعم المنتجات المحلية والمستدامة.
- الحد من النفايات وإعادة استخدام العناصر وإعادة تدويرها كلما أمكن ذلك.
- دعم الشركات التي تتبنى مبادئ الاقتصاد الدائري والحد من نفايات التغليف.
- فرز النفايات من المصدر الأمر الذي يجعل عملية إعادة التدوير أكثر كفاءة ويقلل من كمية النفايات التي ينتهي بها المطاف في مكبات الطمر الصحي.
ولا يمكننا أن نتجاهل تأثير النفايات الإلكترونية (E-waste)، التي تُعد واحدة من أسرع أنواع النفايات نموًا في العالم. فالهواتف الذكية، الأجهزة اللوحية، وأجهزة الكمبيوتر تحتوي على مواد سامة مثل الرصاص والزئبق والكادميوم، والتي يمكن أن تلوث التربة والمياه الجوفية إذا لم يتم التخلص منها بشكل صحيح.
ولحسن الحظ، أن هناك حلول مثل إعادة تدوير النفايات الإلكترونية لاستخراج الذهب والنحاس والفضة وإعادة استخدامها مرة أخرى أو التبرع بالأجهزة القديمة الصالحة للاستخدام
اللحد: مرحلة التخلص من النفايات
عندما ينتهي عمر المنتج تبدأ مرحلة التخلص منه والتي تعبر مرحلة حاسمة في دورة إدارة النفايات. ولذلك فقد طورت وكالة حماية البيئة التسلسل الهرمي لإدارة المواد غير الخطرة والنفايات إدراكًا منها لعدم وجود نهج واحد لإدارة النفايات مناسب لإدارة جميع المواد والنفايات في جميع الظروف.

الحد من النفايات عند المصدر وإعادة الاستخدام: أو ما يُطلق عليه منع النفايات وتقليلها عند المصدر. ويمكن أن يتخذ ذلك أشكالاً عديدة مختلفة بما في ذلك إعادة استخدام العناصر أو التبرع بها، والشراء بكميات كبيرة وتقليل العبوات، وإعادة تصميم المنتجات.
إعادة التدوير والتسميد: تشير إعادة التدوير إلى سلسلة من الأنشطة تتضمن جميع العناصر المستخدمة أو المعاد استخدامها أو غير المستخدمة وفرز المنتجات القابلة لإعادة التدوير ومعالجتها وتحويلها إلى مواد خام. وكذلك إعادة تصنيع المواد المعاد تدويرها إلى منتجات جديدة. كما يمكن أن يشمل إعادة التدوير تحويل بقايا الطعام والمواد العضوية إلى أسمدة
استعادة الطاقة: تعبر عملية استعادة الطاقة من النفايات عن تحويل المواد غير القابلة لإعادة التدوير إلى حرارة أو كهرباء أو وقود قابل للاستخدام في عمليات متنوعة بما في ذلك الاحتراق والهضم اللاهوائي والتحلل الحراري وغيرها.
المعالجة والتخلص: إذ يمكن لمعالجة النفايات قبل التخلص منها أن يقلل من حجمها وسميتها وقد تكون المعالجة فيزيائية كالتقطيع أو كيميائية كالحرق أو بيولوجية مثل الهضم اللاهوائي.
وتعد مكبات النفايات الشكل الأكثر شيوعاً للتخلص من النفايات. إلا أن عملية الطمر يجب أن تتم وفق معايير بيئية دقيقة لمنع تسرب الملوثات إلى التربة والمياه الجوفية. لأن الطمر العشوائي للنفايات، يعد كارثة بيئية وصحية. فالمكبات العشوائية تسبب تلوث التربة والمياه، وتطلق غازات سامة تؤثر على جودة الهواء، وتشكل بيئة خصبة للأمراض كالسرطانات بأنواعها والربو والتشوهات الخلقية وغيرها. وتجدر بنا الإشارة إلى أن الطمر العشوائي في الدول النامية لا يزال يشكل تحديًا كبيرًا بسبب نقص البنية التحتية والوعي البيئي.
دور الحكومات في تعزيز الاستدامة
تلعب الحكومات دوراً بارزاً في وضع الإجراءات والبرامج واللوائح التي تحفز الممارسات المستدامة. كما تستطيع أن تسن سياسات وقوانين تشجع على الاستدامة. فعلى سبيل المثال يمكن أن تحدد الحكومات أهداف لخفض الانبعاثات الكربونية وتعزيز استخدام الطاقة المتجددة كما عمل الاتحاد الأوروبي أو يمكن أن تشرع قوانين بفرض حظر كامل على المواد البلاستيكية التي تستخدم لمرة واحدة فقط كما فعلت الهند.
ويمكن للحكومات أن تفرض رسوم على النفايات مما يشجع الأفراد والشركات على تقليل كمية النفايات التي ينتجونها. فعلى سبيل المثال أدت هذه الرسوم في دول مثل ألمانيا والسويد إلى زيادة معدلات إعادة التدوير بشكل ملحوظ. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للحكومات أن تقدم حوافز مالية للشركات التي تتبنى تقنيات صديقة للبيئة أو تعيد تدوير نفاياتها بشكل فعال.
ومن جهة أخرى، تقود الشركات العالمية مبادرات طموحة لتحقيق صفر نفايات مثل شركة جي إيه سولار وأسترونيرجي في قطاع الطاقة الشمسية.
ولكن تحقيق هذه الأهداف لا يمكن أن يتم بمعزل عن الشراكات بين القطاعين العام والخاص والذي يمكن أن يؤدي إلى تطوير بنية تحتية متقدمة لإدارة النفايات مثل مراكز إعادة التدوير أو محطات تحويل النفايات إلى طاقة.
التحديات والحلول المستقبلية: نحو إدارة نفايات أكثر استدامة
على الرغم من التقدم الكبير في قطاع إدارة النفايات إلا أنه لا تزال هناك تحديات كبيرة تواجه الدول النامية والمتقدمة على حد سواء. ففي الدول النامية، تتجلى التحديات في نقص البنية التحتية، وعدم كفاية التمويل، وغياب الوعي البيئي بين السكان. هذه العوامل مجتمعة تؤدي إلى انتشار الطمر العشوائي وتراكم النفايات في الأحياء الفقيرة، مما يهدد الصحة العامة ويلوث البيئة.
أما بالنسبة للدول المتقدمة، فإن التحدي الأكبر يتمثل في إدارة الكميات الهائلة من النفايات الإلكترونية (E-waste) والنفايات البلاستيكية، التي تتطلب حلولًا مبتكرة ومعقدة.
ولكن هناك بريق من الأمل يكمن في الابتكار التقني، الذي يعد بتقديم حلول واعدة لتحسين إدارة النفايات. ومثال على ذلك نذكر دور الذكاء الاصطناعي في (AI) تحسين عمليات فرز النفايات من خلال التعرف التلقائي على المواد القابلة لإعادة التدوير، مما يزيد من كفاءة وفعالية هذه العمليات فضلاً عن دوره في تقليل النفايات أثناء عمليات التصنيع. كما يمكن لتقنيات إنترنت الأشياء (IoT) أن تساعد في مراقبة حاويات النفايات عن بُعد، وتحديد الوقت الأمثل لجمعها، مما يقلل من التكاليف والانبعاثات الكربونية المرتبطة بعمليات النقل.
وتتمثل إحدى التقنيات الواعدة في تحويل النفايات إلى طاقة (Waste-to-Energy)، والتي تحول النفايات غير القابلة للتدوير إلى كهرباء أو حرارة. ومثال عليها محطة تحويل النفايات إلى طاقة في الإمارات والتي ستعالج 900 ألف طن من النفايات سنوياً وتوفر الكهرباء لإنارة 52 ألف منزل في أبوظبي بحلول عام 2027.
بالإضافة إلى محطة تحويل النفايات في مصر والتي تقع في محافظة الجيزة بمنطقة أبو رواش وتهدف إلى معالجة 1200 طن من النفايات يومياً وتوليد كهرباء بمعدل 30 ميجاواط ساعة.
الخلاصة
في الختام، تمثل إدارة النفايات من المهد إلى اللحد سيف ذو حدين فعلى الرغم من كونها تشكل تحديًا بيئيًا ملحًا، إلا أنها في الوقت ذاته تُمثل فرصةً ثمينةً لتحقيق الاستدامة. فمن خلال تبني مفهوم “من المهد إلى اللحد”، نُدرك أهمية المسؤولية البيئية في كل مرحلة من دورة حياة المنتج، بدءًا من التصميم والإنتاج، مرورًا بالاستهلاك الواعي، وصولًا إلى التخلص الآمن.
ويتطلب تحقيق هذا الهدف تضافر جهود الأفراد والشركات والحكومات على حد سواء. فالأفراد يُمكنهم المساهمة من خلال تبني ممارسات الاستهلاك الواعي، كإعادة التدوير وفرز النفايات ودعم المنتجات المستدامة. أما الشركات، فيقع على عاتقها تصميم منتجات صديقة للبيئة قابلة لإعادة التدوير، وتقليل نفايات التغليف، وتبني تقنيات الإنتاج النظيفة.
وفي النهاية، تلعب الحكومات دورًا حاسمًا في سنّ التشريعات الداعمة للاستدامة، وتوفير البنية التحتية اللازمة لإدارة النفايات، وتشجيع الابتكار في مجال تحويل النفايات إلى طاقة.
إن التعاون الفعّال بين هذه الأطراف الثلاثة هو السبيل الوحيد لضمان مستقبل مستدام، تُصبح فيه النفايات موردًا قيّمًا بدلًا من كونها عبئًا على كوكبنا.
تابعونا على لينكيد إن Linked-in لمعرفة كل جديد في مجال الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية…
المصادر: institute of sustainability studies, quantanite, epa, eh journal biomed central