رؤية تحليلية في تقاطع التحديات الراهنة مع طموحات المستقبل
يقف قطاع الطاقة في سوريا اليوم عند مفترق طرق حاسم، مثقلاً بإرث سنوات من التراجع والدمار، ومتطلعاً في الوقت ذاته إلى أفق تملؤه الفرص الواعدة للطاقة المتجددة. وقد مثّلت الندوة الإلكترونية بعنوان “جاهزية الشبكة الكهربائية لمشاريع الطاقة المتجددة” أكثر من مجرد لقاء افتراضي؛ إذ تحولت إلى ورشة تفكير استراتيجية وغرفة عمليات فكرية، جمعت على طاولتها الافتراضية المهندس خالد أبو دي، المدير العام لمؤسسة نقل وتوزيع الكهرباء، والمهندس محمد المحمود من شركة Ib Vogt الألمانية تحت رعاية وزارة الطاقة الكهربائية السورية وبمشاركة المهندس أحمد الفارس الذي ساهم بتنظيم هذه الندوة. لقد شكلت هذه الندوة، وهي الأولى في سلسلة “مستقبل الطاقة المتجددة في سوريا بعد التحرير”، محاولة جادة لرسم ملامح الواقع. وانطلاقاً من الطروحات التأسيسية التي قدمها الخبراء في هذا اللقاء، يقدم هذا المقال تحليلياً تقنياً أوسع يربط بين تشخيص الواقع الذي عرضه المهندس خالد أبو دي، والتحديات العملية التي أشار إليها المهندس محمد المحمود، مع المتطلبات التقنية والاستراتيجية اللازمة لنجاح عملية الدمج، محولاً الحوارات إلى رؤى استراتيجية للمستثمرين والخبراء.
تشخيص الواقع: أرقام تكشف عمق الأزمة
عرض المهندس خالد أبو دي صورة واضحة للواقع التشغيلي للشبكة الكهربائية في سوريا، مشيراً إلى أن قدرتها الحالية على تصريف الطاقة تصل إلى 7000 ميجاواط، مع طموح للوصول بها إلى 9000 ميجاواط بعد استكمال خطط إعادة التأهيل وهو مستوى يكشف الفجوة الهائلة مقارنة بالقدرات الحالية. لم يكن الأمر مجرد نقص في الطاقة، بل انهيار جزئي في البنية التحتية، خصوصاً في محطات التحويل وخطوط النقل في المناطق التي كانت مسرحاً للعمليات العسكرية. غير أن نسبة الفاقد الفني والتجاري في محطات التوزيع قد وصلت إلى 45%. وهذه النسبة المثيرة للدهشة لا تعني مجرد هدر للموارد الشحيحة أصلاً، وإنما هي مؤشر على تهالك بنيوي وعقبة هائلة أمام أي استثمار جديد؛ فكيف يمكن ضخ طاقة جديدة ومكلفة في شبكة تفقد نصفها تقريباً قبل أن تصل للمستهلك؟
وإدراكاً لعمق هذه الأزمة، لم يقف الطرح عند التشخيص، بل امتد ليشمل الحلول، حيث أعلن المهندس أبو دي عن خطة استراتيجية تمثل جراحة دقيقة وضرورية، وهي توريد وتركيب 6 ملايين عداد ذكي مسبق الدفع، في خطوة تهدف إلى إغلاق أبواب الفاقد التجاري وتحسين الجباية، وإعادة الانضباط إلى شبكة التوزيع.
ومع ذلك، لم تكن الصورة قاتمة بالكامل. فقد تمت الإشارة إلى وجود تجربة عملية في ربط مشاريع طاقة شمسية صغيرة على شبكات التوزيع متوسطة الجهد، مما يعني أن الخبرة الأولية موجودة. ولكن التحدي الحقيقي يكمن في الانتقال من هذه المشاريع المحدودة إلى المشاريع الخدمية واسعة النطاق (Utility-Scale). غير أن الانتقال من التجارب المحدودة إلى محطات كبيرة يستلزم شبكة أكثر صلابة، ما يجعل إعادة التأهيل أولوية وطنية لضمان القدرة على استيعاب تدفقات الطاقة الجديدة.
ما وراء الطرح: متطلبات الدمج الفني للطاقات المتجددة
ركزت الندوة على جاهزية البنية التحتية من خطوط ومحطات، إلا أن دمج مشاريع خدمية واسعة النطاق يفتح الباب أمام تحدٍ تقني أعمق وهو تحدي الحفاظ على استقرار الشبكة. إن ضعف الشبكة الحالية وتراجع “القصور الذاتي (Grid Inertia)” بسبب تراجع دور المولدات التزامنية التقليدية يجعلها أكثر هشاشة أمام الطبيعة المتقطعة للطاقة الشمسية. وهنا يبرز الدور الحاسم للسدود الكهرومائية التي تمثل تاريخيًا العمود الفقري لاستقرار التردد في الشبكة السورية بفضل استجابتها السريعة. غير أن الندوة كشفت بوضوح عن واقع مركب، حيث أن هذه المصادر الحيوية للاستقرار في المنطقة الشرقية تقع حاليًا خارج السيطرة التشغيلية الكاملة للدولة، مما يجعل الاعتماد عليها لتوفير هذه الخدمة المحورية أمرًا معقدًا. هذا الواقع لا يقلل من أهمية هذه السدود فحسب، بل يفاقم من تحدي الاستقرار العام للشبكة، ويجعل الحاجة إلى الحلول التقنية المتقدمة التي يمكنها محاكاة دورها أمرًا لا غنى عنه.
ولضمان نجاح هذا التحول، لا بد من تبني حزمة من الحلول التقنية المتقدمة التي لم تعد ترفاً، بل شرطاً أساسياً للانتقال
- العواكس الذكية (Smart Inverters): تجاوزت وظيفة العاكس حدود تحويل التيار، لتصبح أداة استقرار عبر خدمات مثل الاستجابة الترددية السريعة والتحكم الديناميكي بالجهد. ويُنظر إلى الجيل الأحدث، العواكس وخاصية تكوين الشبكة (Grid-Forming Inverters)، كخيار قادر على محاكاة أداء المولدات التقليدية.
- أجهزة دعم الاستقرار: يشير إلى ضرورة دمج المعوضات المتزامنة (Synchronous Condensers) لتعويض القصور الذاتي المفقود، ولتعزيز الموثوقية على نطاق أوسع، كشفت الندوة عن خطط لإعادة تأهيل خطوط الربط الإقليمي مع تركيا والأردن، وخطط مستقبلية مع العراق، مما يفتح “نوافذ كهربائية” تتيح استيراد وتصدير الطاقة وتزيد من مناعة الشبكة الوطنية ضد الاضطرابات المفاجئة.
بهذه الرؤية، يتحول الدمج من مجرد ربط تقني إلى مشروع “تقوية” للشبكة عبر حلول متقدمة.
من جهته، سلط المهندس محمد المحمود الضوء على بُعد آخر لا يقل أهمية، وهو التحديات العملية على أرض الواقع. حيث ركز على ضرورة وجود إدارة مشاريع إنشائية محترفة للتعامل مع التحديات اللوجستية والبيئية والأثرية، مذكراً بأن بناء محطة طاقة هو تحدٍ إنشائي بقدر ما هو تحدٍ كهربائي.
ضبط الإيقاع: بوابة مركز التحكم الوطني
يشترط الخبراء، قبل منح الموافقات لأي مشروع، تنفيذ دراسات الاستقرار الديناميكي باعتبارها المدخل الأساسي لنماذج المحاكاة في مركز التحكم الوطني. فلا يكفي ربط المحطة فنياً دون التنبؤ بتأثيراتها المستقبلية على استقرار الشبكة.
ولترجمة هذه الحلول إلى واقع تشغيلي لا بد من تحديث قدرات هذا المركز عبر منصات متقدمة لتنبؤ الإنتاجية اللحظية للمحطات الشمسية والريحية، بما يتيح لمشغلي النظام جدولة وحدات التوليد الاحتياطية مسبقاً، ويقلل من مخاطر الانقطاعات المفاجئة.
ما وراء التقنية: قيود اقتصادية وتشريعية
تكشف الندوة أن النجاح في مسار الطاقات المتجددة لا يتوقف عند الهندسة وحدها، بل يصطدم بتحديات أخرى:
- العقوبات الاقتصادية: تشكل عائقاً أمام توريد المعدات المتقدمة، ما يرفع التكاليف ويطيل آجال التنفيذ.
- الإطار التنظيمي: يحتاج المستثمر إلى ضمانات واضحة، خصوصاً فيما يتعلق باتفاقيات شراء الطاقة (PPAs) وحقوق الاستثمار، وهو ما يجعل الشفافية التشريعية عاملاً حاسماً في جذب رؤوس الأموال. وقد أوضحت الندوة في هذا السياق وجود مسارين استثماريين، حيث حددت الدولة سعراً ثابتاً (4 سنت لكل كيلوواط ساعة) لشراء الطاقة من المشاريع الصغيرة (حتى 10 ميجاواط) لتشجيع الاستثمارات المحلية، بينما تركت باب المنافسة مفتوحاً للمشاريع الكبيرة التي يتم تقييم عروضها الفنية والمالية كل على حدة، مما يوفر مرونة ولكنه يتطلب دراسات جدوى دقيقة من قبل المستثمرين.
رسم الطريق: من التشخيص إلى البناء
نجحت هذه الندوة في الانتقال من مستوى الطرح النظري إلى رسم ملامح خارطة طريق عملية. فهي لم تكتفي بتشخيص الأرقام والوقائع، بل قدمت حلولاً فنية متكاملة ورؤية استراتيجية تعكس إدراكاً عميقاً لأهمية التوازن بين التقنية والتشريع والاقتصاد.
وتتمثل الرسالة المركزية في أن سوريا تمتلك نافذة مفتوحة لاستثمارات الطاقة المتجددة، شريطة الالتزام بالمعايير العالمية، وتبني حلول تقنية متقدمة لضمان الاستقرار، والعمل ضمن إطار تنظيمي شفاف. إن بناء مستقبل طاقة نظيفة هنا لا يعني فقط إضافة ميجاواطات جديدة، وإنما إعادة بناء العمود الفقري للشبكة الوطنية، بما يضمن استدامة التزويد ويعزز الثقة لدى المستثمرين.
للاطلاع على تفاصيل أعمق والعروض التقديمية التي نوقشت، تجدون التسجيل الكامل للندوة
تابعوا سلسلة الندوات الالكترونية حول الطاقة الكهربائية في سوريا:
الندوة الثانية: البيئة التنظيمية والتشريعية للأنظمة الشمسية في القطاعات التجارية والسكنية
الندوة الثالثة: حماية استثمارك في الطاقة الشمسية – من التركيب إلى التشغيل والصيانة
الندوة الرابعة: أنظمة تخزين الطاقة بالبطاريات ودورها في تحقيق استقرار الشبكة الكهربائية
.تابعونا على لينكيد إن Linked-in لمعرفة كل جديد في مجال الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية…
نتمنى لكم يوماً مشمساً!