يعدّ الأردن دولة ذات موارد طاقة محلية محدودة لذا اعتمد في توفير احتياجاته على مصادر خارجية مختلفة وقد واجه تحديات كبيرة في سبيل تأمين إمدادات طاقة مستقرة وميسورة التكلفة في منطقة ملتهبة سياسياً واقتصادياً، حيث عملت الحكومات المتعاقبة على تطوير سياسات الطاقة التي تهدف لتقليل الاعتماد على المصادر الخارجية من الواردات ودمج التقنيات الجديدة مثل الطاقة المتجددة وتعزيز أمن الطاقة. وقد تطورت استراتيجية الطاقة في المملكة عبر سلسلة من المعالم الحاسمة التي جعلت من بناء قطاع طاقة أكثر مرونة واستدامة ضرورة لا رفاهية. يستعرض هذا المقال مسار استراتيجيات الطاقة في الأردن، وتطوراتها الحالية، وتطلعاتها المستقبلية، مع بيان نقاط التحول الرئيسية والتركيز على المشاريع الحكومية الكبرى.
تحديات الطاقة واستراتيجيات الماضي
لعقود، اعتمد الأردن بشكل شبه كامل على الوقود الأحفوري المستورد لانعدام المصادر المحلية، حيث تم تلبية أكثر من 90٪ من احتياجاته من الطاقة من خلال اعتماده على الواردات من الدول المجاورة وبغض النظر عن الأسعار التفضيلية في بعض المراحل ولكن هذا الاعتماد جعل البلاد عرضة للاضطرابات الجيوسياسية إضافة لتقلبات أسعار الطاقة العالمية. لهذا ركزت استراتيجيات الطاقة في الأردن قبل عام 2000 بشكل أساسي على تأمين إمدادات مستقرة من النفط والغاز الطبيعي من خلال اتفاقيات ثنائية معظمها من دول شقيقة.
في التسعينيات من القرن الماضي كان اعتماد الأردن بشكل كبير على واردات النفط المدعومة من العراق بموجب اتفاقية خاصة وكانت هذه الاستراتيجية مجدية ليس فقط لأنها كانت أحيانا بأسعار تفضيلية بل أيضا ساعد القرب المكاني والاجتماعي والسياسي بين البلدين على ديمومة هذه الاتفاقيات حيث كانت هناك دائما علاقة خاصة قوية بين البلدين، و لكن عدم الإستقرار السياسي في المنطقة كان التهديد الدائم لأمن الطاقة.
في عام 2003 كان الغزو الأمريكي للعراق الذي أدى لتغيير جذري في البنية الجيوسياسة والإقتصادية لكامل المنطقة وكان أبرز تبعاتها تعطل الإمدادات النفطية الرئيسية للأردن، وهو مما أجبر البلاد على البحث عن مصادر وموردين بديلين، وبالتالي الاعتماد أكثر على السوق الحرة في تأمين احتياجات البلد من الطاقة وهذا ما جعلها تواجه عواقب السوق مثل تذبذب الإمدادات والأسعار مما أدى إلى ارتفاع تكاليف الطاقة بشكل دراماتيكي كانت ذات أثر مباشر على جميع نواحي الحياة الاقتصادية الأخرى وما يتبعها من آثار غير مباشرة على باقي نواحي الحياة في البلاد.
هذه التجربة كانت درسا قاسياً للحكومة جعلها تقوم على تطوير استراتيجية وطنية لأول مرة تهدف لتنويع مصادر الطاقة ودمج التكنولوجيا الجديدة مثل الطاقة المتجددة وتطوير ودمج المصادر المحلية مثل الصخر الزيتي والطاقة النووية حيث اُعتمدت الاستراتيجية الوطنية للطاقة 2007-2020 والتي تقوم على تقليل الاعتماد على الواردات من مصادر الطاقة. وقد سعت الحكومة لاحقاً على تنويع المصادر الخارجية وعدم الاعتماد على مصدر وحيد ولكن أيضا كانت التقلبات السياسية في المنطقة سبباً رئيسياً في قلب الموازين حيث ظهر خطر الاعتداءات المتكررة على مصادر التزويد مثلما حصل مع خط الغاز المصري خلال فترة الربيع العربي عام 2011، جعل البلد تدفع ثمناً باهظاً لتعويض الانقطاعات الناتجة عن ذلك ومازالت آثاره ظاهرة لليوم، وهو ما حث الحكومة على وضع خطط جديدة ذات كلفة رأسمالية كبيرة مثل الميناء البحري للغاز الطبيعي و استئجار باخرة عائمة لتخزين الغاز وبناء خزانات للنفط ومشتقاته لتحافظ على أمن التزود بالطاقة بغض النظر عن الكلفة وتخفيف أثر تذبذب الأسعار العالمية على السوق المحلية.
ومن ناحية أخرى نجح الأردن في أن يصنع من نفسه أنموذجاً في تبني تقنيات الطاقة المتجددة حيث بدأت المشاريع الكبرى تظهر بعد سن قانون خاص بالطاقة المتجددة وآلية عقد اتفاقيات المشاريع في عام 2012 نجح من خلالها بأن يصل لنسبة لا تقل عن 31% مساهمة الطاقة المتجددة في توليد الكهرباء و 14% في خليط الطاقة الكلي حتى نهاية 2023، إضافة لمشروع وحيد في استغلال الصخر الزيتي تم تنفيذه على مرحلتين بقدرة 470 كيلوواط بدأ التشغيل التجاري له عام 2020.

التحول نحو الطاقة المتجددة والمشاريع الحكومية الكبرى
حقق الأردن تقدمًا ملحوظًا في تحويل مشهده الطاقوي خلال العقد الماضي. تعكس الاستراتيجية الوطنية للطاقة 2020-2030 التزام البلاد بالاستدامة وأمن الطاقة والنمو الاقتصادي من خلال تبني الطاقة المتجددة وتحرير السوق وتطوير المصادر المحلية.
وتالياً المشاريع الحكومية الرئيسية التي ساهمت في ذلك:
- مزارع الطاقة الشمسية: من خلال طرح الجولة الأولى والثانية من العروض المباشرة إضافةً لعدد من المشاريع الاستراتيجية التجارية والمشاريع الخاصة بكبار المستهلكين والمستهلكين العاديين والقطاع المنزلي حيث وصل مجموع الاستطاعات المركبة من الطاقة الشمسية تقريبا 2600 ميجاواط
- مزارع الرياح: من خلال طرح الجولة الأولى والثانية من العروض المباشرة حيث وصل مجموع الاستطاعات المركبة من طاقة الرياح حوالي 650 ميجاواط
- تطوير البنية التحتية للغاز الطبيعي: تتضمن محطة الغاز الطبيعي المسال في مدينة العقبة جنوبي الأردن، حيث تبلغ سعتها 490 مليون قدم مكعب يوميًا، ما يسهم في تأمين مصدر مستقر للغاز الطبيعي. وبناء خط الغاز في الشمال وتطوير شبكة تزويد بالغاز لكبار الصناعيين والمناطق الصناعية.
- دعم وتطوير مشاريع كفاءة الطاقة مثل:
- برنامج تحسين كفاءة الطاقة في المباني الحكومية والذي يستهدف خفض استهلاك الطاقة بنسبة 30٪ بحلول عام 2030، ويوفر ملايين الدنانير سنويًا.
- دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة لتحسين كفاءة الطاقة وتقليل الفاقد بنسبة 20٪ في القطاعات الصناعية.
رؤية المستقبل نحو قطاع طاقة مستقل ومستدام
يتطلع الأردن إلى تعزيز مكانته كقائد إقليمي في مجال الطاقة المتجددة والتكنولوجيا الخضراء. حيث تحدد الاستراتيجية الوطنية للطاقة (2020-2030) أهدافًا طموحة لخفض انبعاثات الكربون، وتطوير حلول طاقة متقدمة، وتعزيز التعاون الإقليمي في مجال الطاقة ومن أهم أهداف الاستراتيجية المستقبلية:
- تحقيق 50٪ من الطاقة المتجددة بحلول عام 2030:
- إطلاق مشاريع طاقة شمسية ورياح جديدة لتوفير الطاقة النظيفة من مصادر محلية.
- استثمار في تقنيات تخزين الطاقة لضمان استقرار إمدادات الكهرباء على مدار الساعة وتحقيق اعتمادية عالية لتقنيات الطاقة المتجددة مما يحقق نسبة مساهمة المصادر المحلية المرجوة.
- تطوير البنية التحتية لتبني هذه التقنيات وتشجيع المستهلكين على ذلك.
تطوير الهيدروجين الأخضر:
- تنفيذ مشاريع تجريبية لإنتاج الهيدروجين الأخضر باستخدام الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
- جذب استثمارات كبرى لإنشاء بنية تحتية حديثة لإنتاج الهيدروجين سواء للأهداف المحلية أو بغرض التبادل التجاري مع مختلف الدول المتبنية لهذه التقنيات.
- إنشاء محطة للهيدروجين الأخضر لدعم الصناعات النظيفة والنقل المستدام.
تعزيز التكامل الإقليمي:
- تطوير الربط الكهربائي مع العراق و مصر والسعودية وسوريا لتعزيز تبادل الطاقة وتحقيق استقرار الشبكة.
- تصدير فائض الطاقة المتجددة للأسواق الإقليمية، مما يعزز العائد الاقتصادي للأردن.
- بناء محطات تحويل كهربائية حديثة لدعم الربط الدولي.
الابتكار في تقنيات الطاقة:
- استثمار في الطاقة الذكية لتطوير شبكات كهرباء مرنة تدعم مصادر الطاقة المتجددة.
- اعتماد التقنيات الرقمية مثل الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة لتحليل وتحسين كفاءة استخدام الطاقة.
- تحفيز وتشجيع المراكز البحثية والباحثين في مجالات الطاقة المختلفة.
ختاماً
لقد شهدت استراتيجية الطاقة في الأردن تحولات ملحوظة من الاعتماد الكبير على الواردات إلى مشهد طاقوي متنوع ومستدام نوعاً ما. حيث تمكنت البلاد من الاستفادة من مواردها الطبيعية والابتكار في السياسات وبناء الشراكات الدولية لتصبح رائدة في تطوير وتبني تقنيات الطاقة المتجددة. ولكن لا يمكن التغافل عن وجود تحديات كبيرة مثل القيود المالية وكلفة تخزين الطاقة، لكن النهج الإستباقي للأردن يضمن بقاءه على المسار الصحيح لتحقيق الاستقلالية الطاقوية والاستدامة ومن خلال استمرار الاستثمارات والسياسات المستقبلية يمتلك الأردن فرصة ليكون نموذجاً للتحول الطاقوي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
حول الخبير
بسمة الشطي مهندسة صناعية بخبرة بارزة، تتمتع بأكثر من 22 عاماً من الخبرة في التخطيط الاستراتيجي وإدارة المشاريع وتطوير الطاقة. لعبت دوراً محورياً في تنفيذ عدد من مشاريع الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة في الأردن، خاصة أثناء عملها في صندوق تشجيع الطاقة المتجددة وترشيد الطاقة (JREEEF) التابع لوزارة الطاقة والثروة المعدنية في الأردن. خلال مسيرتها المهنية، أدارت بنجاح مبادرات واسعة النطاق، بما في ذلك تركيب أنظمة الطاقة الشمسية للبلديات وتطبيق تدابير كفاءة الطاقة في المرافق الصحية. تحمل بسمة شهادة الماجستير في إدارة الأعمال، وعدد من الشهادات المهنية في إدارة الطاقة والمشتريات والتخطيط الاستراتيجي، كما أنها عضو نشط في عدة جمعيات صناعية. تواصل التزامها بالتنمية المستدامة من خلال قيادة مشاريع مؤثرة في قطاع الطاقة المتجددة.
تابعونا على لينكيد إن Linked-in لمعرفة كل جديد في مجال الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية…
نتمنى لكم يوماً مشمساً!