أصبح الأمن الطاقي في الآونة الأخيرة أولويةً مُلحّة للدول عالمياً بسبب التحديات المعقدّة والمتشابكة المتمثلة في التغيرات المناخية وتصاعد التوترات الجيوسياسية على المستوى العالميّ. ولا ينحصر اليوم مفهوم أمن الطاقة على ضمان إمداداتٍ موثوقةٍ من الطاقة؛ بل يمتد ليشمل أيضاً تقليل الاعتماد على أسواق الوقود الأحفوري المتقلبة والتخفيف من الأثر البيئي المرتبط باستخدامها؛ و أصبح الانتقال إلى سيناريوهات طاقة أنظف وأكثر استدامةً أكثر أهميةً من أي وقتٍ مضى.
سوق الطاقة العالمي .. الماضي يعيد نفسه
على الرغم من أن مبادرات الطاقة المتجددة قد اكتسبت زخماً خلال العقد الماضي، إلا أنّ مصادر الطاقة المعتمدة على النفط والغاز والفحم ما تزال تُشكّل 81.5٪ من استهلاك الطاقة العالمي وذلك وفقاً لإحصائيات وكالة الطاقة الدولية عام 2023، ومع ذلك، فقد كشفت الأحداث العالمية الأخيرة عن الثغرات التي تعزز هذا الاعتماد المستمر.
التوترات الجيوسياسية
أدى الصراع بين أوكرانيا وروسيا إلى سلسلة من التأثيرات المتتالية في سوق الطاقة العالمي. فقد كانت أوروبا تعتمد على روسيا لتوريد 40% من غازها الطبيعي، إذ واجهت قطعاً حاداً في الإمدادات، ما تسبب في ارتفاع أسعار الغاز من 20 يورو لكل ميجاواط ساعة إلى أكثر من 300 يورو لكل ميجاواط ساعة في عام 2022. كما ارتفعت أسعار النفط بشكل مفاجئ خلال ذروة الصراع، حيث زاد سعر خام غرب تكساس الوسيط (المرجع الأمريكي) بنسبة 48% تقريباً، أمّا خام دبي فقد زاد بنسبة 37.5% تقريباً. وهو ما أجبر أوروبا على التوجه إلى الولايات المتحدة للحصول على إمدادات الغاز الطبيعي ، لترتفع بذلك صادرات الغاز الطبيعي الأمريكي بنسبة 141% في عام 2022 وذلك وفقاً لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية. علاوةً على ذلك، شهد سوق الفحم الحجري ارتفاعاً في الطلب على الرغم من الجهود المستمرة للتخلص التدريجي منه. بينما شهد سوق الطاقة استقراراً نسبياً مقارنة بذروته في عام 2022، وتلاشت العديد من آثار الأزمة المباشرة بحلول عام 2024، غير أن حالة عدم اليقين بشأن موارد الوقود الأحفوري ما زالت قائمة وممتدة حتى يومنا هذا.
ومن ناحية أخرى، لا يمكننا التغاضي عن أوجه الشبه بين أزمة الغاز في العام 2022 وأزمة حظر النفط في السبعينات. إذ ينبغي أن تكون الدروس المستفادة من كلتا الأزمتين واضحة الآن: وهي أن الاعتماد على الوقود الأحفوري سيظل يُشكّل مخاطر كبيرة على الاستقرار العالمي والأمن الاقتصادي. تشترك الأزمتان في العديد من أوجه التشابه و الديناميكيات من حيث الأسباب والنتائج، مما يهدد أمن الطاقة العالمي. كلتا الأزمتين تؤكدان الحاجة الملحة لتنويع مصادر الطاقة، وزيادة الاستثمار في المصادر المتجددة، وتطوير استراتيجيات طاقة أكثر مرونة وذاتية لتفادي أية انقطاعات محتملة في الإمداد وضمان استدامة موارد الطاقة على المدى الطويل.
بين تحقيق الأهداف المناخية والوصول لأمن الطاقة
تستمر هذه التحولات في إعادة هيكلة تجارة الطاقة وإعادة تعريف أدوار بعض البلدان الرئيسية في مشهد أمن الطاقة. ومع ذلك، فإن التركيز على حماية أمن الطاقة غالباً مايتعارض مع الجهود المبذولة لتحقيق الأهداف المُناخية، حيث يمكن أن تؤدي ذبذبة الإمدادات إلى عرقلة التحول نحو الطاقة النظيفة. وذلك ما رأيناه جلياً في كثير من الحالات، عندما قامت بعض الدول بإعطاء الأولوية للاستقرار الطاقي قصير المدى على أهداف مناخية طويلة المدى. يسلط هذا التحدي الضوء على الصعوبة المستمرة في تحقيق التوازن بين أمن الطاقة والعمل المناخي.
ازدهار الطاقة المتجددة .. في أعقاب الأزمة
استجابةً للتحديات المتعلقة بالأمن الطاقي التي بدأت تداعياتها بالظهور في عام 2022، شهدت السنتين الأخيرتين 2023-2024 جهوداً عالمية مكثفة لتسريع التحول نحو الطاقة المتجددة وتعزيز العمل المناخي. شملت الجهود العالمية الرئيسية ما يلي:
- نفّذ الاتحاد الأوروبي خطة “REPowerEU” لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري المستورد وتسريع نشر الطاقة المتجددة.
- أقرّت الولايات المتحدة قانون خفض التضخم، الذي يهدف إلى الحد من التضخم، وتعزيز إنتاج الطاقة، وتقليص انبعاثات الكربون بنسبة 40% بحلول عام 2030.
- استهدفت السعودية في مبادرة السعودية الخضراء (SGI) توليد 50% من طاقتها من مصادر متجددة بحلول عام 2030. إلى جانب الاستثمار في الهيدروجين الأخضر ومشاريع الطاقة الشمسية الضخمة.
- وضعت الإمارات استراتيجية الطاقة 2050 التي تهدف إلى تحقيق 50% من الطاقة النظيفة في مزيجها، كما أنشأت ثلاثة من أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم.
- حافظت الصين على ريادتها كأكبر مستثمر عالمي في مشاريع الطاقة المتجددة، حيث قامت بتركيب أكثر من 1400 جيجاواط من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في عام 2024، كما وسّعت قدرات تخزين الطاقة لدعم هذا النمو وتعزيز استدامة إمدادات الطاقة.
- حددت الهند أهدافاً طموحة تتمثل في تحقيق 50% من توليد الطاقة من المصادر المتجددة بحلول عام 2030، وتقليل كثافة الانبعاثات بنسبة 40%. كما بلغت الاستطاعة المركبة لأنظمة تخزين الطاقة لديها حوالي 112 ميجاواط.

تعهدت 125 دولة في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي (COP28) الذي استضافته دبي في 2023، بمضاعفة الاستطاعة المركبة لمشاريع الطاقة المتجددة بحلول عام 2030، لتسريع تحولها نحو الطاقة المستدامة. وتدعم هذه الجهود تحقيق الاتفاقيات المناخية العالمية، مثل اتفاقية باريس، التي تحدد أهدافاً طموحة لتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة. كما تستثمر دول أخرى مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية وأستراليا بشكل كبير في حلول تخزين الطاقة وتقنيات الشبكات الذكية لمعالجة تقلبات مصادر الطاقة المتجددة. لا تساهم هذه الاستثمارات فقط في تعزيز موثوقية الشبكة ولكن أيضاً تمهد الطريق لمستقبل منخفض الكربون للجميع.
الطريق لا يزال طويلاً: هل نقترب حقاً من تحقيق هدف 1.5 درجة مئوية؟
قد تبدو الأرقام المذكورة سابقاً مُبشّرة، إلا أن “التقييم العالمي للتقدم المحرز منذ اتفاقية باريس 2015 ” كشف أن الجهود المبذولة على أرض الواقع حتى الآن لا تعدو عن كونها “خطوات صغيرة” في رحلة طويلة جداً، وخاصةً أن الانبعاثات الكربونية لا تزال في ارتفاع في جميع أنحاء العالم. فعلى الرغم من تزايد السياسات الدولية الداعمة، فإنها غالباً ماتكون غير متسقة أو بطيئة في التوسع. النتيجة؟ نحن بالفعل نشهد عواقب هذه الانبعاثات. الحقيقة القاسية تعكس الواقع، وهو أن الجهود العالمية لا تسير مع الموعد المحدد لتحقيق هدف الـ1.5 درجة مئوية!


الطاقة النووية ..خيار آخر لكنه مثيرٌ للجدل
بدأت الأنظار مجدداً تتجه نحو الطاقة النووية في الفترات الأخيرة حيث تواصل الدول البحث عن سيناريو طاقة موثوق منخفض الكربون لتعزيز أمن الطاقة ومعالجة تداعيات التغير المناخي. ومع ذلك، يظل دورها موضع جدلٍ بسبب المخاوف المتعلقة بالسلامة والآثار الاقتصادية والبيئية والتوترات السياسية. حالياً، تُشكّل الطاقة النووية حوالي 10% من إجمالي توليد الكهرباء العالمي و 20% من كهرباء أوروبا، وفقاً للجمعية النووية العالمية.
موثوقة ولكن مع كثير من التحديات
توفر الطاقة النووية إمداداً ثابتاً وقابلًا للتنبؤ، ولديها قدرة عالية على إنتاج الطاقة مما يسمح للمصانع بتقديم إنتاج مستمر دون انقطاعات . تسمح هذه الموثوقية العالية للبلدان بتنويع مزيجها الطاقي، مما يقلل من المخاطر المرتبطة بالاعتماد المفرط على مصدر واحد للطاقة.
على الرغم من انبعاثاتها الكربونية المنخفضة أثناء التشغيل، لا تزال الطاقة النووية مثيرة للجدل في سياق الأمن والسلامة. حُجج المعارضين منطقية؛ احتمالية وقوع حوادث كارثية، كما في تشيرنوبل وفوكوشيما، بالإضافة إلى إدارة النفايات المشعّة على المدى الطويل، تغذي الشكوك العامة والمقاوِمة لتوسيع استخدام الطاقة النووية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التشغيل المعقد لمحطات الطاقة النووية يُقيّد قدرتها على التكيف السريع مع التغيرات في الإنتاج، مما يُعقّد دمج المصادر المتجددة المتغيرة مثل الرياح والطاقة الشمسية في الشبكة. يمكن أن يؤدي ذلك إلى التحميل الزائد للشبكة وفرض تحديات جديدة على الطاقة المتجددة، مما يجعل من الصعب أن تتعايش الطاقة النووية والمتجددة معاً في ذات الشبكة.
ونتيجةً لهذه المخاوف، قررت ألمانيا التخلصَ التدريجي من الطاقة النووية، حيث و اعتباراً من عام 2023 أغلقت ألمانيا جميع محطاتها النووية المتبقية وأوقفت آخر ثلاثة مفاعلات نووية في الربع الثاني من 2023، منهيةً خطة التخلص التدريجي التي بدأت بعد كارثة فوكوشيما 2011.
علاوةً على ذلك، فإن التكاليف الباهظة والجدول الزمنيّ الطويل اللازم لبناء المنشآت النووية الجديدة يثيران تساؤلات بشأن جدواها مقارنة بالتقنيات المتجددة التي يمكن نشرها بسرعة وبتكلفة أقل مثل مشاريع الطاقة الشمسية على سبيل المثال.

واقع كثير المتغيرات
تحقيق أمن الطاقة في ظل القيود الكربونية يتطلب نهجاً متوازناً ومنوعاً و على الرغم من التقدم الذي أحرزناه، ما زال الطريق نحو الانتقال الطاقي الأخضر مليئاً بالتحديات.
فمثلاً من بين التحديات الناشئة المرتبطة بالضغط الكبير من أجل الطاقة المتجددة الطلب المتزايد على بعض المعادن مثل الليثيوم والكوبالت والعناصر الأرضية النادرة التي تزداد الحاجة لها مع التوسع في تقنيات الطاقة المتجددة، مما يعرض سلاسل الإمداد لمخاطر جديدة. عدا عن أنّ الإنفاق الرأسمالي المطلوب للمشاريع الكبيرة التي تدعم الانتقال من مصادر الطاقة التقليدية يجلب معه تحديات جديدة، خاصة بالنسبة للدول النامية، التي تكافح لمواكبة سرعة التحول، مما يزيد من فجوة اللامساواة في التحول الطاقي العالمي.
الخلاصة
في الختام، ما زال الطريق أمامنا مليئاً بالعقبات والظروف المجهولة. لذا تتطلب المخاطر المرتبطة بسلاسل الإمداد والفوارق المالية والقيود التقنية والتوترات الجيوسياسية اعتبارات دقيقة وعملاً منسقاً. ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا من خلال التعاون الدولي وآليات التمويل العادلة والابتكار المستمر، لضمان تحولٍ طاقيّ آمنٍ وعادلٍ للجميع. وفي ظل التحديات المتزايدة، من الضروري أن نعمل على تحقيق توازن بين الأمن الطاقي والعمل المناخي، بحيث يمكن لكل من الهدفين أن يدعما الآخر. من خلال استراتيجيات مبتكرة، مثل تعزيز الطاقة المتجددة وتقنيات التخزين، والتعاون بين الحكومات والقطاع الخاص، يمكننا إيجاد حلول تحقق تقدماً مستداماً يخدم أمن الطاقة والمُناخ في آن واحد.
حول الخبير
أسيل العلي مهندسة متخصصة في الطاقة المتجددة والمستدامة، لديها خلفية متنوعة في تقنيات الطاقة المتجددة، تشمل الهيدروجين، وأنظمة التخزين، وطاقة الرياح، والطاقة الشمسية.
بدأت مسيرتها المهنية في مجال الامتثال للمعايير المدنية للمباني الخضراء والمستدامة مثل LEED، واكتسبت خبرة في المختبرات من خلال تقديم خدمات الفحص والاعتماد لأنظمة الطاقة الشمسية الكهروضوئية. قبل أن تنتقل إلى دورها في تطوير الأعمال في مبادرات الطاقة المتجددة في المملكة العربية السعودية. وحالياً، تعمل أسيل في تطوير الأصول لمشاريع الهيدروجين الأخضر والطاقة المتجددة على نطاق المرافق في المملكة .
تدفعها قناعتها العميقة بالمسؤولية البيئية والتأثير الإيجابي في المجتمع، مما يجعلها شغوفة بتحقيق تحول مستدام في قطاع الطاقة.