تقف منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اليوم عند مفترق طرقٍ في المشهد العالمي للاستدامة سريع التطور، ففي الوقت الذي نشهد فيه مبادرات والتزامات محلية في المنطقة مثل رؤية المملكة العربية السعودية 2030، يظلّ التبني العملي لأطر الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (ESG) معقداً ومتعدد الجوانب.
نتعرف معاً في السطور التالية، على أبرز التحديات، والتحولات التنظيمية الأخيرة – بما في ذلك تشريعات الاتحاد الأوروبي الجديدة الشاملة (Omnibus) – مع بعض التوصيات لتطبيق و تبني معايير الاستدامة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.
العقبات أمام تبني معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (ESG)
تواجه عملية دمج أطر الاستدامة المؤسسية العالمية في بيئة أعمال الشرق الأوسط و أفريقيا تحديات عديدة وفريدة مرتبطة ببيئة أعمال وسياقات منطقة الشرق الأوسط، الخليج، وأفريقيا. وتعتبر هذه الأطر منهجياتٍ وأدواتٍ لإعداد تقارير الاستدامة ، وتمكين المؤسسات حول العالم من قياس آثارها البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG) والإفصاح عنها. ولعل من أشهرها عالمياً مبادرة التقارير العالمية (GRI) ، ومجلس معايير محاسبة الاستدامة (SASB)، ومجموعة العمل المعنية بالإفصاحات المالية المتعلقة بالمناخ (TCFD)، ومجلس معايير الاستدامة الدولية.(ISSB)
وحول أبرز العقبات التي قد تقف أمام التبني السريع لمثل هذه الأطر في المنطقة، نذكر:
- التبعات الاقتصادية وديناميكيات السوق
تعتمد اقتصادات هذه المناطق اعتماداً كبيراً على صادرات النفط والغاز. لذا تُشكّل آلية تعديل حدود الكربون (CBAM) تحديًا كبيرًا للمصدّرين الإقليميين. ويجري حالياً تنفيذ إطارين رئيسيين لآلية تعديل حدود الكربون:
- آلية تعديل حدود الكربون الأوروبية (EU CBAM): تم إطلاقها في أكتوبر 2023 بمرحلة انتقالية، وستصبح فاعلة بشكل كامل في يناير 2026. وتغطي في البداية الصناعات كثيفة الكربون بما في ذلك الأسمنت والحديد والصلب والألومنيوم والأسمدة والكهرباء . وهنا يتعين على مستوردي الاتحاد الأوروبي الإبلاغ عن الانبعاثات المضمّنة في هذه المنتجات، وفي النهاية شراء شهادات آلية تعديل حدود الكربون المقابلة لسعر الكربون الذي كان سيتم دفعه لو تم إنتاج السلع بموجب قواعد تسعير الكربون في الاتحاد الأوروبي.
- آلية تعديل حدود الكربون البريطانية (UK CBAM): بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تقوم المملكة المتحدة بتطوير آليتها الموازية الخاصة المقرر أن تبدأ في عام 2027. وفي حين أنها تحاكي إلى حد كبير النهج الأوروبي، فإنها تستهدف صناعات مماثلة مع احتمال وجود اختلافات في التنفيذ لاستيعاب علاقات التجارة الخاصة بالمملكة المتحدة وأهداف المناخ.
ستؤثر هذه الآليات بشكل كبير على مصدّري منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والخليج للمنتجات كثيفة الاستهلاك للطاقة، مما يجبر المنتجين المحليين على إعادة تقييم بصمتهم الكربونية للحفاظ على القدرة التنافسية في الأسواق الأوروبية وتجنب التعريفات.
- التجزئة التنظيمية وعقبات الامتثال
أطلق الاتحاد الأوروبيّ مؤخراً جملة من التشريعات الشاملة (Omnibus) والهادفة لتبسيط تقارير الاستدامة من خلال توحيد التوجيهات مثل توجيه تقارير الاستدامة للشركات (CSRD) وتوجيه العناية الواجبة للاستدامة للشركات (CSDDD). ستساعد هذه التشريعات الجديدة في تبسيط الامتثال داخل الاتحاد الأوروبي، إلا أن هذا التوحيد في التشريعات سيجلب المزيد من التعقيدات للمصدّرين في الشرق الأوسط وأفريقيا الذين يسعون للتوافق مع المعايير الأوروبية.
خطوات استراتيجية نحو دمج هادف للحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (ESG)
للتغلب على هذه التحديات، يمكن للمؤسسات في مناطق الشرق الأوسط والخليج وأفريقيا اعتماد نهج استراتيجي واضح، واتباع هذه الخطوات:
- توضيح “الغاية” وراء مبادرات الاستدامة
إنّ تحديد الدوافع الأساسية – سواء أكانت مرتبطة بالامتثال التنظيمي، أو بهدف الوصول إلى الأسواق الدولية، أو حتى نيل توقعات وثقة المستثمرين – هو الخطوة الأولى في سبيل تحقيق دمج هادف للحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية . على سبيل المثال، يمكن أن يعزز التوافق مع معايير (SASB) ثقة المستثمرين، في حين ينتج عن التوافق مع مبادرة التقارير العالمية (GRI) التفاعل مع أصحاب المصلحة بشكل أوسع.
- توطين الأطر العالمية
لتحقيق دمج فعال لأطر الاستدامة في المنطقة، لا ينبغي أن نغفل عن تكييف المعايير الدولية لتعكس الحقائق المحلية. ففي المناطق التي تعاني من ندرة في المياه مثل أجزاء من أفريقيا ومنطقة الخليج العربي، يجب أن تركز التقارير على ممارسات إدارة المياه جنباً إلى جنب مع تخفيض الانبعاثات الكربونية.
- الاستثمار في بناء القدرات
العامل البشري هو حجر الأساس في مثل هذه العملية، ولابدّ من الاستثمار فيه وتنمية قدراته من خلال تطوير الخبرات الداخلية في الشركات لإدارة تقارير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية بشكل فعال، إضافةً إلى تدريب الفرق لفهم الجوانب التقنية لمعايير التقارير وآثارها الاستراتيجية.
- الاستفادة من الحلول التقنية
استخدام المنصات الرقمية الحديثة لتبسيط جمع البيانات وإعداد التقارير، مما يضمن الدقة والكفاءة والسرعة في تلبية متطلبات تنظيمية متنوعة.

التقدّم والمبادرات الإقليمية
على الرغم من وجود بعض التحديات، إلا أن المهمة ليست مستحيلة إذ شهدت المنطقة إنجازات عدة وتطورات ملحوظة في هذا الصدد، نذكر منها:
التقدم التنظيمي في مصر
تفرض الهيئة العامة للرقابة المالية (FRA) متطلبات الإفصاح عن الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) وفرقة العمل المعنية بالإفصاحات المالية المتصلة بالمناخ (TCFD) على الشركات في القطاع المالي غير المصرفي، مع اشتراط تقديم تقارير ربع سنوية. بالإضافة إلى ذلك، أطلقت الهيئة العامة للرقابة المالية سوقاً طوعياً لتبادل الكربون، مما يخلق فرصاً جديدة للشركات للمشاركة في تجارة الكربون والتعويض عنه.
كما قدّم البنك المركزي المصري مبادرة رائدة تُلزم جميع البنوك المصرية بنشر تقارير الاستدامة استنادًا إلى معايير المبادرة العالمية للتقارير (GRI). ويفرض هذا التوجيه أيضاً إنشاء لجان مخصصة للتمويل والاستثمار الأخضر داخل كل بنك لدعم الشركات التي تتحول إلى ممارسات مستدامة. تضع هذه الجهود المنسقة مصر في مكانة رائدة إقليمياً في مأسسة الاستدامة عبر نظامها المالي.
التزام الإمارات العربية المتحدة بالشفافية
قدمت هيئة الأوراق المالية والسلع (SCA) متطلبات إلزامية للإفصاح عن الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) للشركات المدرجة في سوق دبي المالي (DFM) وسوق أبوظبي للأوراق المالية (ADX)، بما يتماشى مع أفضل الممارسات العالمية. وتعزيزاً لالتزامها بالابتكار المستدام، أطلقت الإمارات العربية المتحدة أيضاً برنامج “التأشيرة الزرقاء” لاستقطاب خبراء وباحثين ورواد أعمال عالميين في مجال الاستدامة. تهدف هذه المبادرة الاستراتيجية إلى بناء قاعدة من المواهب المكرّسة لتطوير حلول استدامة متطورة داخل الإمارات، مما يعزز مكانة الدولة كمركز للابتكار الأخضر في المنطقة.
الاستثمار الأخضر في المملكة العربية السعودية
أما بالنسبة لجهود السعودية، فقد خصص صندوق الاستثمارات العامة (PIF) ما يقارب 19.4 مليار دولار أمريكي للمشاريع الخضراء، مما يؤكد التزامه بالتنمية المستدامة. كما بنت المملكة إطارًا شاملاً للاستدامة يشمل قطاعات متعددة. تتضمن مبادرة السعودية الخضراء (SGI)، التي أُطلقت في عام 2021، مبادرات بقيمة 705 مليار ريال سعودي تستهدف خفض الانبعاثات، وزراعة أكثر من 600 مليون شجرة، وحماية المناطق البرية والبحرية بحلول عام 2030. يقود القطاع المالي التنفيذ من خلال إطار التمويل الأخضر لعام 2024 والإصدار الناجح لسندات خضراء بقيمة 1.5 مليار يورو في أبريل 2025. تدعم هذه المبادرات أهداف السعودية الطموحة لتوليد 50% من الكهرباء من مصادر متجددة بحلول عام 2030 وتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060، مما يظهر دمج مبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات في كل من السياسة العامة وأنشطة القطاع الخاص.
تبني أفريقيا لمعايير مجلس معايير الاستدامة الدولية (ISSB)
في حين أعربت دول مثل نيجيريا عن نيتها تبني معايير “مجلس معايير الاستدامة الدولية” (ISSB)، برزت كينيا أيضاً كرائدة من خلال تطوير أحد أول أطر التصنيف الأخضر في أفريقيا. هذا الإطار، الموجود حالياً في صيغة مسودة ومفتوح للنقاش العام، يضع معايير واضحة لتحديد وتصنيف الأنشطة والاستثمارات الاقتصادية المستدامة بيئياً. تهدف كينيا إلى توجيه رأس المال نحو التنمية المستدامة الحقيقية، وتقليل مخاطر الغسيل الأخضر، وتعزيز الشفافية للمستثمرين الساعين إلى فرص خضراء مؤثرة في جميع أنحاء شرق أفريقيا وذلك من خلال توفير هذا النهج الموحد لتعريف المشاريع “الخضراء”.

تأثير تشريعات الاتحاد الأوروبي الشاملة
تسعى حزمة الاتحاد الأوروبي الشاملة ، التي تم تقديمها في فبراير 2025، إلى تقليل أعباء إعداد التقارير وتعزيز الكفاءة في تقارير الاستدامة. أمّا بالنسبة للمصدّرين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفريقيا، هذا يعني:
• التوافق مع المعايير المبسطة: يجب على الشركات البقاء على اطلاع بتوجيهات الاتحاد الأوروبي الموحدة لضمان الامتثال والحفاظ على الوصول إلى السوق.
• التكيف مع متطلبات إعداد التقارير المبسطة: في حين أن الحزمة الشاملة تهدف إلى التبسيط، فإنها تتطلب فهماً شاملاً للأطر الجديدة لتجنب المشكلات المحتملة.
• الوضع الاستراتيجي للقدرة التنافسية: يمكن أن يضع التكيف الاستباقي مع هذه التغييرات الشركات في موقع مناسب في السوق العالمي، مما يظهر الالتزام بالاستدامة والامتثال التنظيمي.
تأملات ختامية
في صميم كل ذلك، فإن الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (ESG) ليست مجرد كلمات فاخرة أو شعارات رنانة – بل هي توجهات تتعلق بالناس والإرث والمسؤولية بين الأجيال. ولذا نحتاج اليوم إلى التوقف عن السعي وراء الكمال وبدء طرح الأسئلة الصحيحة.
ماذا تعني الاستدامة في منطقة قاحلة، محدودة الموارد، ولكنها غنية بالفرص مثل منطقتنا؟ و كيف يمكننا احترام ثقافتنا، وتمكين شبابنا، وحماية بيئتنا وفي نفس الوقت الحفاظ على مكانة المنطقة العالمية؟
نحن لا نحتاج إلى أطر مثالية. نحتاج إلى شراكات و محادثات أفضل، وأدواتٍ أكثر ذكاءً، وأكثر من ذلك..نماذج ملهمة!
حول الخبير
أميرة فؤاد هي خبيرة في الاستدامة، و تتمتع بخبرة واسعة في مجال الطاقة المتجددة، وإعداد تقارير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية(ESG)، وتحسين سلاسل التوريد. قدمت حلولاً فعالة للاستدامة عبر قطاعات مثل الخدمات المصرفية والرعاية الصحية والطاقة والنفط والغاز والتصنيع، وبشكل أساسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والقارة الأفريقية.
تتخصص أميرة في دمج الاستدامة في العمليات الأساسية للأعمال، وإدارة مخاطر الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، ومواءمة الممارسات مع أطر مثل أهداف التنمية المستدامة. أدت قيادتها في مبادرات بناء القدرات إلى تمكين المهنيين من خلال التدريب على تحسين سلاسل التوريد، وممارسات الأعمال الخضراء، وتمكين المرأة.
مع حصولها على درجة الماجستير في هندسة الطاقة المتجددة ودكتوراه في إدارة الأعمال، تجمع أميرة بين الخبرتين الأكاديمية والمهنية. تم الاعتراف بها كخبيرة أفريقية في تغير المناخ من قبل الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) ومعتمدة من منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (UNIDO) ، و RENAC. تتمتع أميرة بمهارات في إشراك أصحاب المصلحة، وتحليل البيانات، وإدارة المشاريع، وتلتزم أميرة بمساعدة المنظمات على تحقيق الأهداف البيئية والاقتصادية على حد سواء.
تابعونا على لينكيد إن Linked–in لمعرفة كل جديد في مجال الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية…
نتمنى لكم يوماً مشمساً!