برزت في الآونة الأخيرة تقنيات جديدة أثبتت جدارتها في عالم الطاقة الشمسية والطاقة الكهروضوئية على وجه الخصوص، وتُعدّ العواكس الكهروضوئية المُشكّلة للشبكات (Grid – Forming Inverters) على رأس هذه التقنيات، إذ جاءت وجلبت معها حلولاً لبعض التحديات التي كانت قائمة مع العواكس التقليدية.
في هذا المقال، نتناول مفهوم العواكس المُشكّلة للشبكة (Grid -Forming Inverters) ، أهميتها وكيف تعمل مع مقارنتها بالعواكس الشمسية التقليدية التابعة للشبكة.
فهم أنواع العواكس الشمسية
كانت العواكس التابعة للشبكة (Grid-Following Inverters) – والمعروفة أيضاً بالعواكس المتصلة بالشبكة (Grid-Tied)، أو العواكس المغذية للشبكة (Grid – Connected) – بمثابة الخطوة الأولى في مسار إدماج مصادر الطاقة المتجددة مع الشبكات الكهربائية. تقوم هذه الأجهزة بالتزامن (synchronize) مع الشبكة الرئيسية، وقياس الجهد والتردد قبل حقن التيار بزاوية الطور المناسبة. وهي تعتمد على معايير استقرار الشبكة التي أنشأتها محطات الطاقة التقليدية ذات المولدات المتزامنة (Synchronous Generators).
أما العواكس المُشكِّلة للشبكة (Grid -Forming Inverters) فتمثل تطوراً كبيراً. إذ يمكنها إنشاء والحفاظ على معايير الجهد والتردد للشبكة بشكل مستقل. وبدلاً من اتباع مرجع خارجي للجهد الكهربائي، فإنها تعمل كمصادر للجهد “تُشكِّل” مرجعها المستقر الخاص. لنتخيلها كمايسترو الأوركسترا محدّداً الإيقاع والنغمة التي سيتبعها العازفون. وحتى في الشبكات الذكية الناشئة، تسمح هذه الميزة لعدة عواكس شمسية بالتنسيق مع بعضها في أجزاء مختلفة من الشبكة في وقت واحد.
إن هذه الميزة تصبح حاجة أساسية لا مجرّد مزايا إضافية عند انتقالنا لشبكات كهربائية تهيمن عليها مصادر الطاقة المتجددة. ففي الوقت الذي تحتاج فيه العواكس التابعة للشبكة إلى شبكة قائمة “قوية”، تنفرد العواكس المُشكِّلة للشبكة بقدرتها على إنشاء ظروف شبكة مستقرة بنفسها، وهي ميزة تزداد أهميتها في حالات كثيرة مثلاً عند توقُف محطات الطاقة التقليدية عن العمل.
تبرز أهمية هذه العواكس أيضاً عند الانتقال من التوليد المركزي (Centralized) إلى التوليد الموزع (Distributed)، لما لذلك من دور في الحفاظ على موثوقية واستقرار مصادر الطاقة الأصغر المتصلة ببعضها البعض التي يمكن أن تشكل شبكات مصغرة محلية (Microgrids) مع وحدات التوليد القريبة.
العواكس المُشكّلة للشبكة.. ما أهميتها؟
تنبع الحاجة الملحة للتوجه نحو تقنية العواكس المُشكّلة للشبكة من التحول الأساسي في سيناريوهات الطاقة العالمية وخاصة مع السعي العالمي الحثيث للوصول للحياد الكربوني. كان خفض الانبعاثات الكربونية دافعاً أساسياً لاستبدال المولدات المتزامنة كثيفة الانبعاثات الكربونية بموارد أخرى نظيفة مثل الطاقة الشمسية والبطاريات وهي أنظمة تتضمن في تصميمها وجود أجهزة مثل العواكس، ولكن وكنتيجة لذلك، شهدنا بشكل تدريجي إزالة العناصر التي حافظت تقليدياً وحتى وقت طويل على استقرار الشبكات الكهربائية.
كان التحدي الأول هو انخفاض قوة النظام، فمع خروج محطات الطاقة التقليدية عن العمل وانتهاء عمرها التشغيلي، تتأثر مرونة الشبكات واستقرارها مما يخلق تحديات تشغيلية للعواكس التقليدية التابعة للشبكة، ولعلنا رأينا ذلك بوضوح في البلدان والمناطق التي انتشرت فيها أنظمة الطاقة المتجددة.
في الوقت نفسه، مع استبدال المولدات المتزامنة بأنظمة الطاقة المعتمدة على العواكس التابعة للشبكة، أصبحت الشبكات تواجه انخفاضاً في قصورها الذاتي (Inertia). إذ توفر المكونات الدوارة الضخمة في المولدات التقليدية مقاومة طبيعية للتغيرات السريعة في التردد بعد الاضطرابات. ومع إيقاف تشغيلها أو تشغيل عدد أقل من هذه المحطات، يمكن أن يتغير التردد بسرعة بعد أية أحداث واضطرابات مفاجئة في الشبكة، مما قد يؤدي إلى إخفاقات متتالية.
ولا يمكن التغافل أيضاً عن أنظمة الحماية، إذ تعتمد الحماية التقليدية على خصائص محددة لتيار الخطأ توفرها المولدات التقليدية بسهولة. غير أن محدودية قدرة تيار الخطأ للعواكس التابعة للشبكة تُعقّد وظائف نظام الحماية.
ولعل الأهم من ذلك كله هو حاجتنا للحفاظ على وظائف وقدرات بدء التشغيل من الصفر(Black Start) في الشبكة. فبعد انقطاع التيار الكهربائي، يحتاج النظام إلى مصادر طاقة يمكنها البدء بشكل مستقل وتنشيط الشبكة قسماً تلو الآخر، وهي وظيفة يمكن أن تؤديها العواكس المشكّلة للشبكة عند وجود أنظمة تخزين طاقة كافية.
هذه ليست مخاوف نظرية بل تحديات واقعية. تشير التوقعات أنه و بحلول عام ٢٠٢٥، من المتوقع أن تشهد ثماني دول أوروبية فترات تُلبّي فيها محطات توليد الطاقة الكهربائية المتكاملة ١٠٠٪ من الطلب على الكهرباء. في مناطق مثل هاواي وجنوب أستراليا وأيرلندا، يتجاوز معدل الانتشار الفوري لمحطات توليد الطاقة الكهربائية المتكاملة ٥٠-٦٠٪ من الطلب على الشبكة.

كيف تعمل العواكس المُشكّلة للشبكة؟
تنفرد العواكس المُشكِّلة للشبكة بفلسفة تحكم مختلفة كلياً. ففي الوقت الذي تتحكم العواكس التابعة للشبكة في التيار بهدف مطابقة معلمات الشبكة باستخدام آلية حلقة قفل الطور (PLL)، تتحكم العواكس المُشكِّلة للشبكة مباشرة في مقدار الجهد والتردد، وتوازن الحمل فورياً دون تنسيق خارجي.
عملياً، يتضمن التطبيق الفني سلوك مصدر الجهد، حيث تتضمن العديد من التصاميم ما يُعرف بـ “القصور الذاتي الافتراضي” (Virtual inertia) لمحاكاة تأثير الكُتل الدوّارة في المولدات التقليدية.
إحدى الخصائص القيمة في هذه العواكس هي استجابتها الفورية للتغيرات في الشبكة، مما يوفر استجابة فورية مقارنة بالاستجابة الأبطأ المعتمدة على القياس للعواكس التابعة للشبكة. تزداد أهمية هذه الاستجابة السريعة مع زيادة سرعة التغيرات في النظام ووجود عدد أقل من الآلات المتزامنة المتصلة.
طور المهندسون عدة منهجيات تحكم لوظائف تشكيل الشبكة، ابتداءاً من “تطبيق المولدات المتزامنة الافتراضية” (Virtual Synchronous Generators (VSG ) إلى أنظمة التحكم بانخفاض التردد والزاوية ومناهج مبتكرة مثل التحكم المذبذب الافتراضي القابل للإرسال (VOC). تشير الأبحاث إلى إمكانية تعايش أساليب مختلفة من التحكم على الشبكة نفسها، فمثلًا، تدخل المركبات ذات الأحجام المختلفة وتخرج من الطريق السريع بسلاسة دون تعطيل حركة المرور أو تغيير حد السرعة على الطريق السريع (على غرار تردد النظام)، وبطريقة مشابهة، يمكن للأنظمة المعتمدة على العواكس المُشكّلة للشبكة تلبية الطلب بشكل تعاوني مُنسّق دون التسبب في عدم استقرار النظام.
التطبيق العملي
أثبتت تقنية العواكس المُشكّلة للشبكة نجاحها مرات عديدة على أرض الواقع. ففي بورديسهولم، ألمانيا مثلاً (2019)، نجح نظام تخزين الطاقة بالبطاريات مع عواكس تشكيل الشبكة في الحفاظ على استقرار الشبكة لحوالي 8,000 منزل لمدة ساعة، ودون أن يدرك السكان أنهم انفصلوا عن الشبكة الرئيسية.
مثال آخر في كاليفورنيا، نشرت منطقة الري الإمبراطورية 30 عاكساً بتقنية قابلية تشكيل الشبكة (1.25 ميجا فولت أمبير لكل منها) يمكنها أداء وظائف حرجة مثل بدء تشغيل أحمال المحركات من الصفر وتنشيط محولات الجهد العالي، مما يثبت قابلية التقنية للتوسع.
تحديات التنفيذ والطريق إلى الأمام
على الرغم من الفرص الواعدة أمام هذه التقنية، إلا أنها تواجه عدداً من التحديات العملية. إذ تتطلب التقنية وجود مخازن طاقة سواء من البطاريات، أو هامش في التوليد، أو وجود مكثفات فائقة وهو ما سيترتب عليه كلفاً إضافية على أي نظام. كما وتتطلب وظائف تشكيل الشبكة عادة قدرات تيار أعلى للتعامل مع الأحداث العابرة وحالات الخطأ.
كما أن خوارزميات التحكم فيها أكثر تعقيداً، مما يزيد من تكاليف التطوير. علاوةً على أن عدم وجود متطلبات موحدة عبر أنظمة الطاقة يزيد من تعقيد التصنيع. تترجم هذه العوامل إلى تكاليف أعلى، والتي تحتاج إلى حوافز سوقية واضحة أو تفويضات تنظيمية.
الخبر السار، أنه و كما تشير الأبحاث يكفي فقط تحويل (10-30)% من العواكس الموجودة في الشبكة إلى عواكس مُشكّلة للشبكة، أي أن هذه النسبة كافية للحفاظ على الاستقرار في الأنظمة التي تزيد فيها نسبة العواكس عن 90٪، وهو خيار مناسب لا يتطلب إعادة تجهيز وتأهيل جميع المنشآت والشبكات الحالية.

ومن أجل أن تحقق تقنيات تشكيل الشبكة (Grid-forming) كامل إمكاناتها، ينبغي لمشغلي الشبكات والمنظمين وضع متطلبات وظيفية واضحة تقنياً. كما يجب أن تُقيّم الآليات القائمة على السوق الفوائد التي تقدمها هذه التقنيات للنظام الكهربائي. ومن شأن توحيد المعايير بين المناطق أن يقلل من تعقيد التصنيع وتكاليفه، مما يسمح بتوسيع نطاق الاعتماد على هذه التقنيات بشكل أسرع.
الخلاصة
تمثل العواكس بتقنية قابلية تشكيل الشبكة أكثر من مجرد تحسين تدريجي في تقنيات الطاقة المتجددة، بل هي أيضاً عامل تمكين أساسي لشبكة المستقبل عالية الاعتماد على المصادر المتجددة ومنخفضة الانبعاثات الكربونية. وفي المستقبل القريب، ستتولى هذه العواكس المتقدمة أدواراً داعمة وأساسية للشبكة .
يمكن القول ختاماً أن هذه التقنية ناضجة بما يكفي للتنفيذ اليوم، مع مشاريع تجريبية ناجحة تثبت فعاليتها في دعم تحول الطاقة. بالنسبة للمهندسين والمتخصصين التقنيين في قطاع الطاقة النظيفة، فإن فهم تقنية تشكيل الشبكة أمر ضروري لبناء شبكة مرنة خالية من الكربون لتلبية أهدافنا المناخية. و مع تسارع التحول العالمي في مجال الطاقة، ستكون قدرة تشكيل الشبكة حجر الزاوية الذي يحافظ على الاستقرار والموثوقية والمرونة في نظام الطاقة المتجدد.
حول الخبير
أنس كركي، خبير في الهندسة الكهربائية والعواكس الشمسية، حاصل على شهادة البكالوريوس والماجستير في الهندسة الكهربائية وهندسة الحاسوب من جامعة تكساس إيه أند إم Texas A&M Universityعامي ٢٠١٦ و٢٠٢٠ على التوالي، كما نال شهادة الدكتوراه في مجال الطاقة المستدامة من جامعة حمد بن خليفة في الدوحة، قطر عام ٢٠٢٤.
يشغل الدكتور كركي حالياً منصب باحث ما بعد الدكتوراه في معهد قطر لبحوث البيئة والطاقة التابع لجامعة حمد بن خليفة. وتتركز اهتماماته البحثية في مجالات متعددة تشمل التحكم في عواكس قابلية تشكيل الشبكة، والتحكم التنبؤي، ودمج مصادر الطاقة المتجددة، والانتقال السلس بين أنظمة الطاقة، وإدارة الطاقة، والمركبات الكهربائية، ونظرية الألعاب، والتعلم المعزز، وتداول الطاقة.
يُعد الدكتور كركي من الكفاءات العلمية المتميزة في مجاله، حيث يسعى من خلال أبحاثه إلى المساهمة في تطوير حلول مستدامة لتحديات الطاقة العالمية، مستفيداً من خبرته الأكاديمية المتنوعة بين الولايات المتحدة الأمريكية ودولة قطر.
تابعونا على لينكيد إن Linked-in لمعرفة كل جديد في مجال الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية…
نتمنى لكم يوماً مشمساً!